محمد علي باشا .. الوجه الاخر .... خفايا وخبايا

كان (محمد على سرششمة) قد بعثته تركية مع ثلاثمئة من الجند فى أواخر أيام الحملة الفرنسية.
و(سرششمة) درجة بسيطة يلقب بها قائد عدد من الجنود فى الدول العثمانية كان ذلك فى سنة ١٨٠١م ( ١٢١٦ه‍).
كان محمد على هذا الذى أسند إليه أمر ولاية مصر فى سنة ١٨٠٥، ( ١٢٢٠ه‍) ، فى الخامسة والثلاثين من عمره.
وكان جاهلا لم يتعلم قط شيئا من العلوم، وكان لايقرأ ولايكتب، وقضى أكثر عمره تاجرًا يتاجر فى (الدخان)، ثم انضم إلى الجند، ولكنه كان ذكيا داهية عريق المكر، يلبس لكل حالة لبوسها، وكان مغامرا لا يتورع عن كذب ولا نفاق ولا غدر.
وفى أثناء مقامه فى مصر من سنة ١٨٠١م إلى سنة ١٨٠٥م، يراقب اضطراب أمورها واختلال إدارتها، وبنظره الثاقب وذكائه خالط المشايخ والقادة والمماليك الذين حاولوا العودة إلى ولاية مصر، فنافقهم جميعًا، وأظهر لجميعهم المودة والنصح وسلامة الصدر، حتى انخدع به المشايخ والقادة، وآثروا ولايته على ولاية المماليك ؛ فنصبوه واليا على مصر.
وعلى رأس من انخدع به:
(السيد عمر مكرم) أكبر قائد للمشايخ والجماهير، فبذل كل جهده فى إسناد ولاية مصر إليه، وكان ما أراد الله أن يكون.
.
• لم يكن (الاستشراق)، وخاصة (الاستشراق الفرنسى)، غافلا عن هذا المغامر الجديد، وعن خلائقه، بل كان مراقبا له كل المراقبة من أول يوم جاء فيه إلى القاهرة..
ومراقبا أيضا لكل ما كان يجرى فى مصر منذ رحيل الحملة الفرنسية.
فلما تمت ولاية (محمد على سرششمة) على الديار المصرية، أحاطت به (قناصل المسيحية الشمالية) إحاطة كاملة...
و(القناصل) هم الاستشراق نفسه فى صورته السياسية..
فبدأو يفتلون له الذروة والغارب، ويوغرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه أصلًا واليا على مصر! ويخوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير الأمة.
وصادف ذلك استجابة طبيعية ، لما فى قلب هذا المغامر الجرئ من الدهاء والخبث وترك التورع عن الغدر وإنكار الجميل وحب النفرد بالسلطان الذى ناله بغتة ، ولم يكن قط فى حياته يتوهم أن يناله أو ينال ما هو دونه بكثير .
فكانت أول غدرة غدرها (محمد على سرششمة) هذا بالذى نصبه واليا على مصر، وبذل له فى ذلك كل جهد، وهو قائد الأمة مشايخها وجماهيرها، نقيب الأشراف (السيد عمر مكرم)، فإنه بمكره ودهائه أوقع بينه وبين بعض المشايخ، ثم انتهى الأمر بأن نزع عنه نقابة الأشراف، ثم نفاه إلى دمياط فى أول رجب ١٢٢٤ه‍ ( ١٢ أغسطس ١٨٠٩م) ، أى بعد ولاية هذا المغامر الغدار بأربع سنوات فقط...
وبقى السيد عمر فى منفاه الأول عشر سنوات، حتى استدعاه إلى القاهرة، فجاءها، ثم عاد ونفاه مرة أخرى إلى طنطا التي توفى رحمه الله فىها تلك السنة نفسها.
.
ثم استدار بعد ذلك على المشايخ يوقع بينهم، ليوهى سلطانهم على جماهير الأمة ، ويفتت قوة الجماهير بعسفه وظلمه وإرهابه وجبروته ، بعد القضاء على قادتهم وتشتيت شملهم ، وكذلك كان ، والأمر لله من قبل ومن بعد . وكذلك ظفر
.
(الاستشراق) بالمشايخ الكبار:
مهَّدَ لعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة! وأوغر صدر هذا الجبار، ومكن فى قرارة قلبه بُغض الأزهر وشيوخه وطلبة العلم المجاورين فيه، وانفرد هو بأذن هذا الجاهل الجرئ المستبد، يوحون إليه بما يريدون وما يبيتون، ويتمون ما بدأوا به من وأد (اليقظة) التى تهددهم بها دار الإسلام فى مصر على يد مسلم جاهل غر أهوج، لا يعرف كثيرا ولا قليلا من (الثقافة المتكاملة) التى حفظت دار الإسلام قرونا طوالا، وكانت لب (اليقظة) و(النهضة) الوليدة التى كان قريبا جدا أن تؤتى ثمارها.
.
• وثبت هذا الطاغية قواعد ملكه، وازداد إطباق (القناصل، والمستشرقين) على عقله وقلبه.
وكانت إنجلترا ومستشرقوها ما فتئت تخوف الدولة التركية، وتؤلبها على مهد (اليقظة) فى جزيرة العرب، والتى قام بها وأسسها الإمام (محمد بن عبد الوهاب) (١١١٥- ١٢٠٦ه‍ \ ١٧٠٣-١٧٩٢م)...
واستجابت دار الخلافة بغفلتها إلى هذا التأليب، حتى جردت حملات متتابعة لقمع (اليقظة) الوهابية، وآبت فى جميعها بالإخفاق.
ثم منذ ولى (محمد على سرششمة) جعلت تركية تدعوه إلى تجريد جيوشه لقتال الوهابيين، وتتابع هذا الطلب من سنة ١٨٠٧م إلى سنة ١٨١٠م ؛ فلم يستجب لنداء تركية...
ولكن (الاستشراق) بقناصله زين أخيرا لـ(محمد على سرششمة) أن يستجيب ؛ ليحقق مآربه فى وأد (اليقظة) التى كادت تعم جزيرة العرب، وأمدوه بالسلاح الذى يعينه على خوض الحرب، وذلك فى سنة ١٢٢٦ه‍ \ ١٨١١م، ( أى بعد ولايته مصر بست سنوات)..
وسارت الجيوش قاصدة جزيرة العرب، ودارت الحرب التى لم تنته إلا بعد ثمان سنوات ، وفقدت الجيوش المصرية آلافا من أبنائها، ولقيت هزائم كادت تودى بها.
وأخيرا:
تم النصر لـ(محمد على سرشسمة)، بعد أن ارتكب من الفظائع ما لا بستحله مسلم، واستباح الديار والأموال والنساء، وهدم المدن، فكان هو وابنه إبراهيم وسائر أولاده طغاة من شر الطغاة.
وكانت حربا طاحنة لا معنى لها إلا إيقاف دعوة إصلاحية لتجديد التوحيد ونبذ الأضرحة والأشجار والأحجار؛ فلم لاينتفع بالحرب إلا مؤرثوها من دهاة المسيحية الشمالية.

انظر: «رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا» للعلامة الأديب محمود محمد شاكر.
نقل ذلك لكم بتصرف:
أبومارية أحمد بن فتحي