الرد بإحسان علي من انكر (((وكتب فلان بن فلان)))

بسم لله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وبعد:
فهذا بيانٌ مختصرٌ لجُملة: (((وكتب فلان بن فلان))) في آخر مقالاتنا، وسببه:
أن بعض الأفاضل أنكروا عليَّ وعلَى غيري من بعض طلاب العلم كتابة هذه الجُملة تحت مقالاتنا، وقالوا بأنه ينبغي ألا يكتب أحد اسمه تحت كتاباته؛ وعللوا ذلك بــ:
- أن في هذا حب للظهور، وطلب للرفعة.
- أنه يُخشى على مَن يفعل هذا أن يصيبه العُجب.
ووصلت إليَّ عللٌ أخرى تدور حول المعنيين السابقين...
وأقول:
لستُ بدعًا ممن يكتبون؛ فيوثِّـقون ما يُنشِؤون.
بل مَن تأمَّل أحوال العُلماء قديمًا وحديثًا؛ لوجد هذا وعرَفَه.
بل مَن له دراية بالمخطوطات، واكتحلت عيناه بنسخها والبحث فيها؛ لوجدها تعجُّ بهذا سواء أسماء الناسخين أو المؤلفين.
بل من له اطلاع على كتب التاريخ وخاض فيها يمنة ويسرة، وطولا وعرضا ؛ لوجد أمثلة ذلك كثيرة.
وسوف أدلل على ما أقول خلال السطور القادمة... ولكن من المستحسَن أن أبيِّن وجهتي المتواضعة في هذا الصدد؛ إذ التُّهمة صُبت عليَّ ابتداءً، ووجهتي:
أولًا:
قد كثُر الناقلون والمقتبسون في هذا الزمان؛ حتى صرنا لا نفرق بين أديبٍ وقليل أدبٍ منتحِل !
وقد عانيت من هذا بنفسي؛ فأجد أحدا أخذ مقالا كاملا ونشره، ثم يقولون له: [كلامك رائع؛ زادك الله علما]؛ وهو يقول: [بارك الله فيكم!] وفي الأصل هو لا يُحسن الإملاء فضلًا عن يرتقي هذا الارتقاء؛ فيكتب!
فبكتابة هذه الجُملة تُحفظ الحقوق؛ وإن ازالها أحدٌ متعمدًا فقد علم في قرارة نفسه ما فعل.. أما لو وجد الكلام لمجهول؛ فلن تلومه نفسه لحظةً!
ثانيًا:
لو أخطأت في كلامي المنشور بخطإ ما.. ولم أكتب اسمي تحته، وأحَبَّ أحدٌ أن يرد عليَّ أو ينبهني أو ينصح لي ثم فوجئ بأن الكلام المنشور المليء بالأخطاء مجهول المصدر.. ألا تكون ضاعت النصيحة عليَّ ؟!
صحيح إنه سوف يرد على الخطإ المنشور.. لكن هل ضمن أن يصل لليد الأصلية التي سوف تكتب الخطأ مِرارًا ؟!
ثالثًا:
لو صار كلٌّ يكتب وينشر دون ذِكر الاسم.. فأين كلام السلف: «سموا لنا رجالكم» ؟!
وأين إسناد الكلام.. الذي كاد أن يُفقد في هذه الأمة ؟! بالرغم من أننا أمة الإسناد!
هذه بعض وجهاتي باختصار ؛ حتى يتسع المقام للتدليل على ما قلته سابقًا..
.
جاء في «المصنف» لابن أبي شيبة: «وَكَانَ فِي صَدَقَةِ عَلِيٍّ: شَهِدَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. وَكَتَبَ».اهـ.
يعني: وكتب فلان.
وجاء في «صُبْح الأعشى» للقلقشَنْدي، وانتبه لما سأضعه بين هذه الأقواس ((( ))) وذلك لألفت الانتباه إليها...
قال القلقشندي:
«وفيه فَصْلان: الفصل الأول في «بيان الْمُستندات»، وهي التوقيع على القصَص، وما يجري مجْراه، وما يُحْتاج فيه إلى كتابة المستندات».اهـ.
ثم قال:
«إنَّ المكتوب من الدِّيوان إنْ كان مُكاتبةً، فالواجب أن يكون عنوانُها بخطِّ مُتولِّي الدِّيوان، وإن كان منشورًا؛ فالواجب أن يكون التاريخُ بِخَطِّه؛ ليدلَّ على أنه وقف على المكتوب، وأمضى حُكْمَه ورضِيَه، ويكون ذلك قد قام مقام كتابةِ اسمه فيه».اهـ.
ثم قال:
«ثم قال: وقد كان الرسم بالعراق - وفيه الكُتَّاب الأفاضل - أن يكتب الكُتَّابُ ما يكتبون، ثم يقولون في آخِرِه: ((وكتبَ فلانُ بنُ فلان))».اهـ.
ثم قال:
«ذكَر نَحْوَه أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ في «صناعة الكُتَّاب»، إلاَّ أنه قد جعل بدل اسم متولِّي الدِّيوان اسم الوزير، فقال: ويُكتَب في آخر الكِتَاب: ((وكتب فلانُ بن فلان)))».اهـ.
ثم قال:
«وقد رأيت نُسَخًا عدَّة من سجِلاَّت الْخُلفاء الفاطميِّين بالديار المِصْرية مُستشهَدًا فيها باسم الوزير على النَّهْج المذكور، على أنه كان الواجبُ أن يكون الاستشهادُ في آخِرِ كلِّ كتابٍ (((باسم كاتبه الذي يكتبه)))؛ لِيُعلَم مَن كتَبَهُ؛ فإنَّ الخطوط كثيرة التَّشابه، لا سيَّما وقد (((كَثُر كتَّاب الإنشاء في زماننا)))، وخرجوا عن الحدِّ، حتَّى إنَّه لَم يَعْرِف بعضُهم بعضًا، فضلاً عن أن يَعرِف خطَّه»ا.هـ.
ثم قال:
«وقد كان كُتَّاب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سجَّلوا عنه سجِلاًّ أو نحوه كتب الكاتبُ في آخره: (((وكتب فلان بن فلان)))، وهذه الرُّقعة التي كتبها النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِتَميمٍ الدَّاريِّ بإقطاع قُرًى من قرى الشام موجودة بأيدي التَّميميِّين إلى الآن».اهـ.
ثم قال:
«قال أبو هلالٍ العسكريُّ في كتابه «الأوائل»: وقد قالوا: إنَّ أوَّلَ مَن كتب في آخِر الكتاب: (((وكتب فلان بن فلان))) أُبَيُّ بن كعب - رضي الله عنه».اهـ.
قلت:
قد ذكر الأعشى هذا عن الخلفاء في صيانة دواوينهم، وحقوقهم وحقوق الناس في حياتهم ومعاشهم.. فكيف بمن يكتب في دين الناس وعقائدهم، أيكون مجهولًا ؛ بحجة الخوف من أن يقع في العُجب ؟!
وبعد هذه السياحة في كلام الأعشى، أميل بشدةٍ أن يُكتب تحت كل كتاب أو مقال أو منشور: «وكتب فلان بن فلان» ؛ تَمييزًا لكاتبه، حتَّى إذا كانت هناك مسؤوليَّة تَحمَّلها الكاتب بنفسه..
إضافةً إلى أن الكِتَاب أو المقال يكون منسوبًا إلى صاحبه، لا ينازعه فيه أحد؛ ففيه عصارة أفكاره وبحثه!
.
أمَّا إذا أردنا أن نعرِّج على كتُبِ السِّيرة؛ فنجد أن هذه الجُملة تكرَّرت مرَّتَين في كتاب «سبُل الهدى والرَّشاد، في سيرة خير العباد، وذِكْر فضائله وأعلام نبوَّتِه وأفعاله وأحواله في المبدأ والْمَعاد» لِمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، حيث قال:
« - الباب الثلاثون: في استكتابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - محمدَ بن مسلمة - رضي الله تعالى عنه -:
قال ابنُ سعد: قالوا: وكتَب رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: هذا كتابٌ من مُحمَّدٍ رسولِ الله لمهري بن الأبيض على مَن آمن من مهرة: أنَّهم لا يُؤكلون ولا يُغار عليهم، ولا يعركون، وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدَّل فقد حارب الله، ومن آمن به فله ذمَّة الله وذمَّة رسوله، اللُّقَطة مؤدَّاة، والسَّارحة مندَّاة، والتَّفث السيِّئة، والرَّفث الفُسوق؛ ((وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري))) ».اهـ.
ثم قال:
« الباب التَّاسع والثَّمانون: في وفود مَهْرَةَ إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
قال ابنُ سعد - رحمه الله تعالى -: قالوا: قدم وَفْد مهرةَ عليهم مهريُّ بن الأبيض، فعرض عليهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الإسلام، فأسلموا ووصَلَهم، وكتب لهم: "هذا كتاب من محمَّد رسول الله لمهري بن الأبيض على مَن آمن به مِن مهرة، ألاَّ يؤكلوا ولا يعركوا، وعليهم إقامة شرائع الإسلام؛ فمن بدَّل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمَّة الله وذمَّة رسوله، اللُّقَطة مؤدَّاة، والسارحة منداة، والنَّفث السيِّئة، والرَّفث الفسوق"؛ (((وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري)))».اهـ.
وانظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد.
.
وأختم بهذا النقل المهم، فقد قال أحد شراح ألفية الحافظ العراقي في «كتابة التسميع»:

ويكتب اسم الشيخ بعد البسملة *** والسامعين قبلها مكملة
مؤرخًا أو جنبها بالطرة *** أو آخر الجزء وإلا ظهره
بخط موثوق بخط عرفا *** ولو بخطه لنفسه كفى
إن حضر الكل وإلا استملى *** من ثقة صحح شيخ أم لا
وليعر المُسْمَى به إن يستعر *** وإن يكن بخط مالك سطر
فقد رأى حفص وإسماعيل *** كذا الزبيري فرضها إذ سيلوا
إذ خطه على الرضا به دل *** كما على الشاهد ما تحمل
وليحذر المعار تطويلا وأن *** يثبت قبل عرضه ما لم يبن
.....................
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
«كتابه «التسميع» الذي يسمونه الطباق، إذا انتهى الطلاب من قراءة كتاب على شيخ، وأرادوا روايته عنه يكتب التسميع، يعني يثبت أسماء الحضور في الكتاب، والشيخ يصحح ذلك، يقول: صحيح ذلك. (((وكتبه فلان))) ».اهـ.
.
وأخيرًا، أذكر تحفتين للحافظ ابن حجر:
أولهما:
قال في «الإصابة» في ترجمة (أبي بن كعب) رضي الله عنه:
«قال الواقدي: وهو أول مَن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وأول من كتب في آخر الكتاب: (((وكتب فلان بن فلان)))‏».اهـ.
ثانيهما:
ذكر رحمه الله في ترجمة (عقبة بن عامر الجهني) رضي الله عنه من «التهذيب» أن المصحف الذي كتبه لا زال موجودًا في مصر ـ في عصر الحافظ ـ بخطه، وفي آخره: (((وكتب عقبة بن عامر بيده))) ».اهـ.
وهذا مصحف موثوق! وما بين دفتيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ ومع ذلك كتب اسمه توثيقًا ! بل لينال شرف كتابة ذلك، ولم يُخش عليه عجبًا وإعجابًا بالنفس، ولم يُعَب عليه ويُذم لذلك !
أرجو أن يكون قد اتضح البيان المختصر، ومادام الأمر كذلك، وأنها عبارة معروفة ومتداولة منذ عهد كُتاب الحبيب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عصرنا هذا، ولا يزال العلماء وطلاب العلم وأهل الصحافة وأهل السياسة.. وغير هؤلاء ممن له شيء مكتوب يوثق ذلك باسمه؛ فما الحُجة أن يُنسب كلامنا لغيرنا، أو يُترك مجهولًا..؟!
أمَّا مسائل العُجب والظهور، ومثل هذه الأمور؛ فالله أعلم بما في الصدور.. وحده تعالى.
ولو كان على الظهور ؛ لحصل ذلك من سنين! ولكن كنا ولا نزال مستغنين مختفين.. إلا ما أراد الله ظهوره بنشر الناشرين؛ ولابد.
هذا، وصلى الله وسلم على عبده محمد وآله وصحبه.
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي