بسم الله الرحمن الرحيم
اطلعت على كلمات مختصرات لأستاذنا الناقد الأديب/ أبو اليزيد الشرقاوي، رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، والذي أشرف أن أكون أحد تلامذته، وفحوى الكلمات كما هو آت:
(( درست الشعر الإسلامي في صدر الإسلام وعصر بني أمية باحثًا عن القيم الدينية فيه؛ خصوصًا أنه أقرب الأزمنة بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام.. والخلاصة كانت صادمة؛ فلم يمتثل الشعراء لتعاليم الدين مطلقًا في زمن صدر الإسلام وبني أمية إلا في أحوال محدودة، وأبيات معدودة، أما عموم الشعر وسائره فهو جاهلي في لغته ومعناه، ويمكن القول أن الجاهليين كانوا أكثر عفة ونقاء ورجولة واحترامًا من الشعراء في فترة صدر الإسلام وبني أمية )) انتهى.
.
وهذا الكلام انتقده بعض الناس وأرسلوه إليَّ معاتبين الأستاذَ الأديبَ على كلماته؛ يريدون انتصارًا ودفاعًا عن تلك الفترة، لا سيما وقد حكم فيها خلفاء عدول..
فقلت:
إن الأستاذ الشرقاوي لا يقصد أبدًا الانتقاص لا من الفترة ولا خلفائها، بل ولا حتى من شعرائها.. إنما حكى نمطًا معينًا في زمنٍ معيَّن كان ذلك هو الظاهر فيه.. بل والغالب، وهو حق.
ومِن الأمانة العلمية أنَّ التاريخ يُحكى بحلوه ومُره، وعُجره وبُجره... دون التعصب لأحد.
وكي يتضح القول في ذلك لابد من تأصيل لتلك المرحلة وأهم شعرائها وما تميزوا به وقتئذٍ..
.
فالعصر الأموى ابتدء سنة (41 هـجرية) بعد عصر الخلفاء الراشدين، والذي اتخذ دمشق في الشام عاصمة لخلفائه..، والمعروف أنه حدث ركود وفتور للشعر العربي في صدر الإسلام، بسبب انبهار الشعراء واشتغالهم بالقرآن الكريم وجمال نظمه، فانصب وارتكز جُل اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم، بحيث طغى على كل شيء في حياتهم.
ثم ازدهر الشعر مجددًا في العصر الأموي، واتسعت آفاقه ومراميه، ورقَّت كلماته ومعانيه تبعًا للحال الجديدة ومظاهرها السياسية والدينية والقبلية والثقافية...
فقد ظهرت فيه خلافات سياسية، وأخرى قبلية، بل ومذهبية؛ ــ والتاريخ يشهد ــ أدى ذلك كله إلى صراعات عنيفة وصلت حد المقاتلة والتخريب في بعض الأحيان.. وقد خاض غمار هذه الاحداث الشعراء، وتحزب كل شاعر إلى فئته أو قبيلته، وهذا معروف حيث إن الشعراء هم من أفراد ذلك المجتمع وصفوتهم، وهم أصحاب الثقافة والفكر وقتئذٍ؛ فكان لكل مجتمع أو قبيلة او اتجاهٍ شاعرهم الذي يدافع عنهم، وينشر أفكارهم ومفاهيمهم؛ فقد كا ن الشعراء والأدباء عامة يمثلون الصحافة المحلية في عصرنا هذا.
.
وانقسم ذلك العصر إلى أربعة أقسام داخل الدولة:
الأول:
القسم الحاكم والمناصر للدولة ومجريات سياستها، وهم الخلفاء ومناصروهم، وحاشيتهم، وذوو الجاه والسلطان، ومَن تبعهم مِن سائر الشعب؛ فكلهم لهم شعراؤهم وأدباؤهم الذين يعيشون في كنفهم، ويغدقون عليهم الأموال..
وأشهرهم: الأخطل التغلبي، والفرزدق.
.
ومثال شعرهم ما قاله الأخطل مادحًا الخليفة عبد الملك:
نَفْسِي فِداء أمير المؤمنين اذا *** أبدَى النواجد يومًا صارم ذكر
الخائض الغرة الميمون طائره *** خليفة الله يستسقى به المطر
مِن نبعةٍ من قريش يعصبون بها *** ومَا أن يوازي باعلى نبتها الشجر
.
الثاني:
القسم العلوي، وقد كانوا يرون أن الأمويين اغتصبوا الخلافة الإسلامية منهم.
ومن شعرائهم:
الكميت الأسدي الذي يقول في مدح آل البيت ويذم بني أمية في هاشمياته:
فقل لبني أمية حيث حلوًا *** وإن خفت المهند والقطيعَا
إلا أفٍّ لدهر كنت فيه *** هدانا طائعا لكم مطيعَا
أجاع الله من اشبعتموه *** وأشبع من بجوركم اُجِيعَا
بمرضى السياسة هاشمي*** يكون حيا لَائِمَتهُ ربيعَا
.
الثالث:
القسم الزُّبَيْرِي، وهم أصحاب عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب بن الزبير، وهؤلاء نظرتهم أن الخلافة يجب أن تكون في قريش فقط، دون العلويين أو الأمويين.
مِن شعرائهم:
قيس بن عبد الله الرقيات إذ يقول:
أيا المشتهي فناء قريش *** بيد الله عمرها والفناء
لو تقضى وتترك الناس كانوا *** غنم الذئب غاب عنه الرعاء
إنما مصعب شهاب من *** الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليس له *** جبروت ولا به كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد *** أفلح من كان همه الاتقاء
.
الرابع:
الخوارج، وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب إثر قبوله الصُّلح في (صِفِّين) حيث رأوا أنَّ الخلافة حق لجَمِيع المسلمين، وتكون للأصلح منهم.
من شعرائهم:
قطري بن الفجاءة، والطرماح..
ومن شِعر الطرماح قال:
لقد شقيت شقاءا لا انقطاع له *** إذ لم أفُزْ فوزة تنجي من النار
النار لم ينج من روعتها أحد *** إلا المنيب بقلب المخلص الشاري
أو الذي سبقت من قبل مولده *** له السعادة من خلاقها الباري
.
وهكذا تتفاقم الخلافات حتى بلغت ذروتها أثناء الحكم الأموي، ولابد لكل جماعة أو حزب مَن يؤيده كما رأينا..
ولم يقتصر الأمر على الأمور السياسية والتنازع فيها...
بل من الشعراء من صب اهتمامه على الهِجَاء، والطعن في غيره من الشعراء، وعلى إثر ذلك ظهر شعر النقائض، وكذلك ازداد فنُّ الفخر؛ فأخذ الشعراء كل يفخر بقومه! وقد أدت هذه الظاهرة إلى انشقاق بين القبائل وشرخها...
ومن ناحية أخرى تأثر الشعراء الأمويين بالثقافة الجاهلية، والإسلامية على نطاق ليس واسعًا؛ لذلك جاء أغلب شعرهم سليم العبارة، فصيحًا، سهل الحفظ، مختلط المعاني، وكثير من استشهد بشعر هذا العصر في اللغة وبلاغتها أو نحوها، وبيانها، واعتمد عليه النقاد والأدباء.
.
أما عن الأحوال المعاشية ورفاهية الحياة ورغد العيش فقد كان لها تاثيرًا عظيمًا في الشعر الأموي، وكذلك ظهور اللهو والترف؛ فنشط الغزل الحضرى في الحجاز، وخاصة في المدينة ومكة والطائف، وظهر الغزل البدوي (العذري) في نجد.
وكذلك اتسعت معالم الشعر الخمري ومجالسه، والشعر الوصفي؛ نتيجة اختلاط العرب بالأمم الأخرى كالفارسية، والرومانية، والهندية... إضافة لما ورثوه من موروث جاهلي.
.
وأما الرثاء بقي على ما هو عليه في الجاهلية والإسلام غير موسَّع إلا أنه ظهر فيه فن يكاد يكون جديدًا، هو:
رثاء الخلفاء والأمراء، والقادة، وأولي الشأن، ولم يكن صادق العاطفة غالبًا، بل في أكثر الأحيان كان تقليدًا ؛ طمعا في التكسب والمال.
ومن أشهر شعراء الرثاء:
الأخطل، وجرير، وليلى الأخيلية التي تقول في رثاء حبيبها المتوفي:
لعمرك ما الموت عار على الفتي *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالمًا ** بأخلد ممن غيبته المقابر
.
وأما الغزل فقد تميز به فحول شعراء ذلك العصر، وهم: جرير، والأخطل، والفرزدق في افتتاحيات قصائدهم، وغيرهم أيضًا.
ومما قاله جرير في الغزل، ويتمثل فيها بأفضل بيتين قالتها العرب في شعر الغزل في الشعر القديم أو الحديث إذ لم يأت شاعر بمثلهما فيه:
لقد كتمت الهوى حتـى تهيجنـي *** لا أستطيـع لهـذا الحـب كتمانـا
كاد الهوى يوم سلمانيـن يقتلنـي *** وكـاد يقتلنـي يومـا ببيـدانـا
لا بارك الله في من كان يحسبكـم *** الا على العهد حتى كانـا ماكانـا
لا بارك الله في الدنيا اذا انقطعـت *** أسباب دنياك من أسبـاب دنيانـا
ما أحدث الدهـر مما تعلميـن لكـم *** للحبل صرما ولا للعهـد نسيانـا
إن العيون التي في طرفها حـور قتلــ*** ـننـا ثـم لـم يحيـن قتـلانـا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعـف خلـق الله إنسانا
وهناك غزل عذري وحضري... والكلام يطول
.
وأختم كلامي هذا بفن (النقائض) وهي قصائد في غاية البلاغة والمتانة تمتاز بطولها، وتكاد تكون تطورًا لشعر الهجاء، إلا انها يدخلها المدح والفخر أيضا يردُّ الشاعر فيها على خصمه أو خصومه من الشعراء.
وقد شاعت النقائض في هذا العصر الأموي نتيجة للصراع الحزبي أو القبلي أو العداء الشخصي بين الشعراء أنفسهم حتى أصبحت فنا جديدا من فنون الشعر العربي له شعراؤه وفرسانه، وقيلت فيه القصائد الطوال التي أعجب بها الأدباء والنقاد، واعتبرت من روائع الشعر العربي.
وأهم شعراء هذا الفن الفرزدق، والأخطل، وجرير.
يقول جرير في الفرزدق:
ولقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا *** فجاءت بوزار قصيرالقوادم
هو الرجس يا أهل المدينة فاحـ*** ــذروا مداخل رجس بالخبيثات عالم
فيرد عليه الفرزدق فيقول:
قال ابن صانعة الزروب لقومه *** لا أستطيع رواسي الأعلام
ووجدت قومك فقؤوا من لؤمهم *** عينيك عند مكارم الأقوام
صغرت دلاؤهم فما ملاءوا بها *** حوضا ولا شهدوا عراك زحام
وبعد هذا لبيان المختصر أرجو أن يكون اتضح مقصد الأستاذ الشرقاوي، وما رمى إليه، ولا ننكر أن العصر الأموي ازدهرت فيه سوق الشعر؛ حيث اهتم خلفاء بني أمية بالشعراء نتيجة حبهم للشعر، ولقد كان الاهتمام بالشعر ناتجًا من كونه الأداة الإعلامية الأولى للترويج لأفكار بني أمية وسياستهم.
ولكنه لم يقُم على قِيَم إسلامية، لاسيما مع حداثة عهده بزمن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكتب أبومارية أحمد بن فتحي
اطلعت على كلمات مختصرات لأستاذنا الناقد الأديب/ أبو اليزيد الشرقاوي، رئيس قسم الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة، والذي أشرف أن أكون أحد تلامذته، وفحوى الكلمات كما هو آت:
(( درست الشعر الإسلامي في صدر الإسلام وعصر بني أمية باحثًا عن القيم الدينية فيه؛ خصوصًا أنه أقرب الأزمنة بالنبيِّ عليه الصلاة والسلام.. والخلاصة كانت صادمة؛ فلم يمتثل الشعراء لتعاليم الدين مطلقًا في زمن صدر الإسلام وبني أمية إلا في أحوال محدودة، وأبيات معدودة، أما عموم الشعر وسائره فهو جاهلي في لغته ومعناه، ويمكن القول أن الجاهليين كانوا أكثر عفة ونقاء ورجولة واحترامًا من الشعراء في فترة صدر الإسلام وبني أمية )) انتهى.
.
وهذا الكلام انتقده بعض الناس وأرسلوه إليَّ معاتبين الأستاذَ الأديبَ على كلماته؛ يريدون انتصارًا ودفاعًا عن تلك الفترة، لا سيما وقد حكم فيها خلفاء عدول..
فقلت:
إن الأستاذ الشرقاوي لا يقصد أبدًا الانتقاص لا من الفترة ولا خلفائها، بل ولا حتى من شعرائها.. إنما حكى نمطًا معينًا في زمنٍ معيَّن كان ذلك هو الظاهر فيه.. بل والغالب، وهو حق.
ومِن الأمانة العلمية أنَّ التاريخ يُحكى بحلوه ومُره، وعُجره وبُجره... دون التعصب لأحد.
وكي يتضح القول في ذلك لابد من تأصيل لتلك المرحلة وأهم شعرائها وما تميزوا به وقتئذٍ..
.
فالعصر الأموى ابتدء سنة (41 هـجرية) بعد عصر الخلفاء الراشدين، والذي اتخذ دمشق في الشام عاصمة لخلفائه..، والمعروف أنه حدث ركود وفتور للشعر العربي في صدر الإسلام، بسبب انبهار الشعراء واشتغالهم بالقرآن الكريم وجمال نظمه، فانصب وارتكز جُل اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم، بحيث طغى على كل شيء في حياتهم.
ثم ازدهر الشعر مجددًا في العصر الأموي، واتسعت آفاقه ومراميه، ورقَّت كلماته ومعانيه تبعًا للحال الجديدة ومظاهرها السياسية والدينية والقبلية والثقافية...
فقد ظهرت فيه خلافات سياسية، وأخرى قبلية، بل ومذهبية؛ ــ والتاريخ يشهد ــ أدى ذلك كله إلى صراعات عنيفة وصلت حد المقاتلة والتخريب في بعض الأحيان.. وقد خاض غمار هذه الاحداث الشعراء، وتحزب كل شاعر إلى فئته أو قبيلته، وهذا معروف حيث إن الشعراء هم من أفراد ذلك المجتمع وصفوتهم، وهم أصحاب الثقافة والفكر وقتئذٍ؛ فكان لكل مجتمع أو قبيلة او اتجاهٍ شاعرهم الذي يدافع عنهم، وينشر أفكارهم ومفاهيمهم؛ فقد كا ن الشعراء والأدباء عامة يمثلون الصحافة المحلية في عصرنا هذا.
.
وانقسم ذلك العصر إلى أربعة أقسام داخل الدولة:
الأول:
القسم الحاكم والمناصر للدولة ومجريات سياستها، وهم الخلفاء ومناصروهم، وحاشيتهم، وذوو الجاه والسلطان، ومَن تبعهم مِن سائر الشعب؛ فكلهم لهم شعراؤهم وأدباؤهم الذين يعيشون في كنفهم، ويغدقون عليهم الأموال..
وأشهرهم: الأخطل التغلبي، والفرزدق.
.
ومثال شعرهم ما قاله الأخطل مادحًا الخليفة عبد الملك:
نَفْسِي فِداء أمير المؤمنين اذا *** أبدَى النواجد يومًا صارم ذكر
الخائض الغرة الميمون طائره *** خليفة الله يستسقى به المطر
مِن نبعةٍ من قريش يعصبون بها *** ومَا أن يوازي باعلى نبتها الشجر
.
الثاني:
القسم العلوي، وقد كانوا يرون أن الأمويين اغتصبوا الخلافة الإسلامية منهم.
ومن شعرائهم:
الكميت الأسدي الذي يقول في مدح آل البيت ويذم بني أمية في هاشمياته:
فقل لبني أمية حيث حلوًا *** وإن خفت المهند والقطيعَا
إلا أفٍّ لدهر كنت فيه *** هدانا طائعا لكم مطيعَا
أجاع الله من اشبعتموه *** وأشبع من بجوركم اُجِيعَا
بمرضى السياسة هاشمي*** يكون حيا لَائِمَتهُ ربيعَا
.
الثالث:
القسم الزُّبَيْرِي، وهم أصحاب عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب بن الزبير، وهؤلاء نظرتهم أن الخلافة يجب أن تكون في قريش فقط، دون العلويين أو الأمويين.
مِن شعرائهم:
قيس بن عبد الله الرقيات إذ يقول:
أيا المشتهي فناء قريش *** بيد الله عمرها والفناء
لو تقضى وتترك الناس كانوا *** غنم الذئب غاب عنه الرعاء
إنما مصعب شهاب من *** الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليس له *** جبروت ولا به كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد *** أفلح من كان همه الاتقاء
.
الرابع:
الخوارج، وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب إثر قبوله الصُّلح في (صِفِّين) حيث رأوا أنَّ الخلافة حق لجَمِيع المسلمين، وتكون للأصلح منهم.
من شعرائهم:
قطري بن الفجاءة، والطرماح..
ومن شِعر الطرماح قال:
لقد شقيت شقاءا لا انقطاع له *** إذ لم أفُزْ فوزة تنجي من النار
النار لم ينج من روعتها أحد *** إلا المنيب بقلب المخلص الشاري
أو الذي سبقت من قبل مولده *** له السعادة من خلاقها الباري
.
وهكذا تتفاقم الخلافات حتى بلغت ذروتها أثناء الحكم الأموي، ولابد لكل جماعة أو حزب مَن يؤيده كما رأينا..
ولم يقتصر الأمر على الأمور السياسية والتنازع فيها...
بل من الشعراء من صب اهتمامه على الهِجَاء، والطعن في غيره من الشعراء، وعلى إثر ذلك ظهر شعر النقائض، وكذلك ازداد فنُّ الفخر؛ فأخذ الشعراء كل يفخر بقومه! وقد أدت هذه الظاهرة إلى انشقاق بين القبائل وشرخها...
ومن ناحية أخرى تأثر الشعراء الأمويين بالثقافة الجاهلية، والإسلامية على نطاق ليس واسعًا؛ لذلك جاء أغلب شعرهم سليم العبارة، فصيحًا، سهل الحفظ، مختلط المعاني، وكثير من استشهد بشعر هذا العصر في اللغة وبلاغتها أو نحوها، وبيانها، واعتمد عليه النقاد والأدباء.
.
أما عن الأحوال المعاشية ورفاهية الحياة ورغد العيش فقد كان لها تاثيرًا عظيمًا في الشعر الأموي، وكذلك ظهور اللهو والترف؛ فنشط الغزل الحضرى في الحجاز، وخاصة في المدينة ومكة والطائف، وظهر الغزل البدوي (العذري) في نجد.
وكذلك اتسعت معالم الشعر الخمري ومجالسه، والشعر الوصفي؛ نتيجة اختلاط العرب بالأمم الأخرى كالفارسية، والرومانية، والهندية... إضافة لما ورثوه من موروث جاهلي.
.
وأما الرثاء بقي على ما هو عليه في الجاهلية والإسلام غير موسَّع إلا أنه ظهر فيه فن يكاد يكون جديدًا، هو:
رثاء الخلفاء والأمراء، والقادة، وأولي الشأن، ولم يكن صادق العاطفة غالبًا، بل في أكثر الأحيان كان تقليدًا ؛ طمعا في التكسب والمال.
ومن أشهر شعراء الرثاء:
الأخطل، وجرير، وليلى الأخيلية التي تقول في رثاء حبيبها المتوفي:
لعمرك ما الموت عار على الفتي *** إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالمًا ** بأخلد ممن غيبته المقابر
.
وأما الغزل فقد تميز به فحول شعراء ذلك العصر، وهم: جرير، والأخطل، والفرزدق في افتتاحيات قصائدهم، وغيرهم أيضًا.
ومما قاله جرير في الغزل، ويتمثل فيها بأفضل بيتين قالتها العرب في شعر الغزل في الشعر القديم أو الحديث إذ لم يأت شاعر بمثلهما فيه:
لقد كتمت الهوى حتـى تهيجنـي *** لا أستطيـع لهـذا الحـب كتمانـا
كاد الهوى يوم سلمانيـن يقتلنـي *** وكـاد يقتلنـي يومـا ببيـدانـا
لا بارك الله في من كان يحسبكـم *** الا على العهد حتى كانـا ماكانـا
لا بارك الله في الدنيا اذا انقطعـت *** أسباب دنياك من أسبـاب دنيانـا
ما أحدث الدهـر مما تعلميـن لكـم *** للحبل صرما ولا للعهـد نسيانـا
إن العيون التي في طرفها حـور قتلــ*** ـننـا ثـم لـم يحيـن قتـلانـا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به *** وهن أضعـف خلـق الله إنسانا
وهناك غزل عذري وحضري... والكلام يطول
.
وأختم كلامي هذا بفن (النقائض) وهي قصائد في غاية البلاغة والمتانة تمتاز بطولها، وتكاد تكون تطورًا لشعر الهجاء، إلا انها يدخلها المدح والفخر أيضا يردُّ الشاعر فيها على خصمه أو خصومه من الشعراء.
وقد شاعت النقائض في هذا العصر الأموي نتيجة للصراع الحزبي أو القبلي أو العداء الشخصي بين الشعراء أنفسهم حتى أصبحت فنا جديدا من فنون الشعر العربي له شعراؤه وفرسانه، وقيلت فيه القصائد الطوال التي أعجب بها الأدباء والنقاد، واعتبرت من روائع الشعر العربي.
وأهم شعراء هذا الفن الفرزدق، والأخطل، وجرير.
يقول جرير في الفرزدق:
ولقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا *** فجاءت بوزار قصيرالقوادم
هو الرجس يا أهل المدينة فاحـ*** ــذروا مداخل رجس بالخبيثات عالم
فيرد عليه الفرزدق فيقول:
قال ابن صانعة الزروب لقومه *** لا أستطيع رواسي الأعلام
ووجدت قومك فقؤوا من لؤمهم *** عينيك عند مكارم الأقوام
صغرت دلاؤهم فما ملاءوا بها *** حوضا ولا شهدوا عراك زحام
وبعد هذا لبيان المختصر أرجو أن يكون اتضح مقصد الأستاذ الشرقاوي، وما رمى إليه، ولا ننكر أن العصر الأموي ازدهرت فيه سوق الشعر؛ حيث اهتم خلفاء بني أمية بالشعراء نتيجة حبهم للشعر، ولقد كان الاهتمام بالشعر ناتجًا من كونه الأداة الإعلامية الأولى للترويج لأفكار بني أمية وسياستهم.
ولكنه لم يقُم على قِيَم إسلامية، لاسيما مع حداثة عهده بزمن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكتب أبومارية أحمد بن فتحي

