درس تربوي من شيخ المحققين محمود شاكر

درس تربوي لطُلَّاب العلم - حفظهم الله وسددهم -
.
قال العلامة المحقق محمود شاكر - رحمه الله - في «طبقات فحول الشعراء» (ص158):
«وكذلك نبذت أيضًا مُستنكفًا لفظ: «حققَّ وتحقيق ومحقق»، وما يخرج منها ... نبذًا بعيدًا دَبر أُذُنَيَّ ؛ لِما فيه من التَّبجح والتَّعالي والادِّعاء...
واقتصرتُ على «قرأ» ؛ لأنَّ عمَلِي في كل كتابٍ لا يزيد على هذا: أنْ أقرأ الكتاب قراءةً صحيحةً، وأؤديه للناس بقراءة صحيحة، وكلُّ ما أعلق به عليه، فهو شرحٌ لغامضه، أو دلالة للقارئ من بعدي على ما يعينه على فهم الكلام المقروء، والاطمئنان إلى صحة قراءته، وصحة معناه، لا أكثر، ولا أقل إن شاء الله .
بواسطة محمود بن عادل
قلت: وهذا من شديد تواضعه إذ أنه ــ رحمه الله ــ بأعماله في الكتب التي أخرجها قد توافرت فيها شروط التحقيق...
والتحقيق كما عرَّفَهُ الأستاذ محمود الطناحي رحمه الله ــ وهو تلميذه ــ فقال:
والتحقيق في اصطلاح نشر التراث: «هو أن يُؤدَّى الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلفه كمًّا وكيفًا بقدر الإمكان».
والكتاب المحقَّق: «هو الذي صحّ عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه».
ولتحقيق هذه الغاية لا بد من إجراءات علمية تدور على النقاط التالية:
1- تحقيق عنوان الكتاب.
2- تحقيق اسم المؤلف.
3- تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
4- تحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربًا لنص مؤلفه.
والخطوة الأولى في تحقيق الكتاب هي:
جمع قدر معقول من مخطوطاته، والموازنة بين نسخ هذه المخطوطات ؛ لاختيار النسخة الأصل، أو النسخة الأم، والنسخ المساعدة، ويتم اختيار هذه النسخة الأصل وفق معايير معينة، هي على هذا الترتيب:
1- أن تكون النسخة بخط المؤلف، أو تكون من إملائه على أحد تلاميذه، أو تكون قد سمعت عليه، أو أجاز روايتها عنه، على أن يثبت في أول النسخة أو آخرها ما يدل على ذلك.
2- أن تكون النسخة مأخوذة عن النسخة السابقة التي هي الأصل، أو تكون فرع فرعها.
3- إذا فقدت نسخة المؤلف أو النسخة المنقولة عنها -وهي فرعها، أو فرع فرعها- فيكون المعيار العام في تفضيل نسخة على أخرى هو قِدم تاريخ النسخ، وقربه من عصر المؤلف، مع سلامة المتن وصحة النسخ.
.
ويدور عمل المحقق بعد أن ينسخ الكتاب من الأصل المخطوط الذي اختاره وارتضاه، وبعد المقابلة على النسخ الأخرى، على جملة من التعليقات، هي:
1- ذكر فروق النسخ، ولا يذكر من هذه الفروق إلا ما له وجه ومعنى.
2- تخريج النصوص (قرآن- حديث- شعر- مثل). وتخريج النصوص هو الدلالة على مواضعها في مصادرها.
3- توثيق النقول التي صرح المؤلف بنسبتها إلى أصحابها، أو التي سكت عنها، ثم عرف المحقق أصولها وأصحابها.
4- التعريف بالأعلام والأماكن، ولا يعرّف منهما إلا ما كان مجهولًا أو قليل الشهرة.
[قلت [أبو مارية]: ومنهم مَن يعرِّف الأعلام كلها ؛ لزيادة الفائدة.اهـ.]
5- الشروح اللغوية للألفاظ الغريبة، ويتصل بها شرح المصطلحات، والإشارات التاريخية.
وواضح أن تعليقات المحقق التي تقوم على هذه النقاط الخمس، ينبغي أن تكون في دائرة إضاءة النص وتوضيحه فقط، فلا يصح أن يتوسع فيها حتى تخرج إلى التفسير الكامل، فتحقيق النصوص ليس شرحًا لها.
[قلت [أبو مارية]: ولذلك فلا يصح أن يكتب (شرح، أو شرحه) إلا إذا استفاض وتوسَّع وبيَّن في مقدمته أنه قرر شرحًا. اهـ.]
ويسبق هذا العمل عمل ويقفوه عمل، فأما الذي يسبقه فهو ترجمة لمؤلف الكتاب، على المنهج المعروف عند أئمة التحقيق، ثم حديث عن الكتاب المحقق، ومكانه في الفن الذي يدور حوله، تأثرًا وتأثيرًا، ثم مكانة الكتاب في المكتبة العربية على وجه العموم.
وأما الذي يقفوه فهو فهارس فنية تكشف عن كنوز الكتاب وفوائده، وتجري هذه الفهارس على النحو الذي عرف عند شيوخ صنعة التحقيق ) انتهى.
[قلت [أبو مارية]: وقد كثر في هذه الآونة من نصبوا أنفسهم محققين، ولم يأتوا بمعشار ما ذكره الأستاذ الطناحي، وأحط من ذلك من دفع العمل لمكتبٍ ما ثم وضع اسمع على ما لم يقم به.
ولذلك تجد في عامين أو ثلاثة مَن خرَّج عشرات التحقيقات!
وكيف .. وقد كان شيوخ المحققين أمثال العلامتين أحمد ومحمود شاكر وغيرهما يمكثون السنين الطوال في تحقيق أقل من مجلد !
فنسأل الله السلامة والعافية.
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي