الحمد لله:
كم للعبادات من حلاوة في نفوس العبيد، والتي لا يشعر بهذه الحلاوة إلا من وفقه الله لذلك، وامتزجت روحها بقلبه وعقله، ولحمه وعظمه.. وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
ويزداد الفضل تفضُّلًا حينما جاءت الحقائق تبيّن أن الكون في خدمة الإنسان، ليس عدوًّا له..، وأن كل شيء مسخَّر لخدمته.. هذا المخلوق الضعيف.. لكنه المُكرَّم !
قال سبحانه وتعالى بعدما بيَّن عظيم خلقه للسماوات والأرض، وعظيم قدرته في إخراج الثمرات، وتسخير الفلك في البحر، وأنه آتى الإنسان كل ما سأله إياه.. فقال بعد هذا كله:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
وقال جل جلاله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}... والآيات كثيرة.
.
فعلاقة الإنسان بالكون علاقةُ تلازُم، وتناغُم، وانسجام...، تتمثل في الاستكشاف، والتأمُّل، والتفكُّر؛ مما ينتج عن ذلك:
الانتفاع له ولسائر الدواب...
وهكذا يجمع الإسلام بين الإشباع الحسِّي والوجداني، وحاجات الإنسان المادية؛ ليرتقي به ماديًّا ونفسيًّا، ويحدث التوازن في شخصيته وحياته.
إذن..، فالكون وما حوَى سبب للمعرفة العلميّة، والمعرفة الإيمانيَّة.
.
ولقد أجرمت الحضارات الغربيَّة في حق الدِّين والعلم والإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون، وقصرت التعامل على المعرفة الماديَّة فقط، ونسَوْا أن هناك علاقة التلازُم والانسجام بين الإنسان والكون.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}.
.
وأخرج البخاري، عن قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه، حدثهم قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحُدًا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف، وقال: «اسكن أحد - أظنه ضربه برجله -، فليس عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: «سيروا هذا جمدان سبق المفردون» قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله قال: «الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات».
فتأمَّل الجبال كيف تناغمت وانسجمت، ونسجت شبكةً زاتصالًا حوَى التجاوب بينها وبين عباد الله الصالحين ملؤها الحب والتعاضد في تمجيد الله تعالى...
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
وليس الجبال فقط بل كل شيء في الكون!
فالنار تحسن معاملة إبراهيم عليه السلام.
والبحر يحتضن موسى عليه السلام وهو رضيع.
والكهف الموحش –وهو مظنّة الهلاك– يؤوي الفتية المؤمنين الفارِّين بدينهم؛ فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في القصور بين أهلهم الكافرين.
والريح تسارع بحمل البُشرَى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنَّ ابنه المفقود حيٌّ يرزق.
ويرفق البحر والحوت معًا بيونس عليه السلام فيخرج من المِحنة العجيبة سالمًا لم يغرقه الماء، ولم يأكله الحوت، وإنّما ابتلعه بحسب ما أمره ربه تعالى.
بل إن الكون من حجَرٍ وشجَرٍ وجدارٍ..إلخ سوف يصطفُّ مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود فينادي الشجر والحجر المسلم ويدلُّه على مخبإ اليهوديّ ليخلّص الأرض من رجسه وظلمه.
إذن.. الكون كتاب مفتوح، جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغةٍ وبكلِّ لسان، ويدرَك بكل الحواس، وبأي وسيلة...؛ كل ذلك للتأمُّل والتفكُّر في صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.
هذا الإبداع الرباني الذي ينطق بعظمة الخالق جل وعلا...
السماء وارتفاعها، واتساعها، وما فيها من مجرَّات دائرة، وكواكب نيرة، ونجوم زاهرة.
والأرض وانبساطها وانخفاضها وما فيها من جبال، وبحار، وثمار، وأشجار، وأنهار، وإنسان، وحيوان؛ تجعل القلب ينطق قبل اللّسان.
لله درُّ القائل:
سَلِ الواحةَ الخضراءَ والماءَ جاريًـا * * * وهـذه الصحـارِي والجبـال الرَّواسِـيَ
سَلِ الروض مزدانًا سَلِ الزهرَ والندَى * * * سَلِ الليلَ والإصبَاحَ والطير شاديًا
سَلِ هذه الأنسام والأرض والسمَا * * * سَلْ كلَّ شـيءٍ تسمـع الحمْدَ سارِيـًا
فلو جَنَّ هـذا الليـلُ وامتـدَّ سرمـدًا * * * فمـن غيـر ربـي يُرجِـعُ الصبـح ثانيـًا
.
وعبادة التفكر كانت دأب النبيِّ صلى الله عليه وسلم منذ تحنثه وهو شاب في غار حراء، وسبقه بها كل نبيٍّ لاسيما الخليل إباهيم...
وظل النبي صلوات الله عليه ديدنه التفكُّر حتى لحق بالرفيق الأعلى.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: «يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي». قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك. قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حِجْرَه. قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته. قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكِ وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}.
.
وأثرَه اقتفاه أصحابُه...
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما سُئل بم عرفت ربك؟ فقال:
«عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له: وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال: العجز عن الإدراك إدراك والبحث في ذات الله إشراك».
.
وقال أبو سليمان الداراني: «إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة».
.
ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: «التفكر والاعتبار».
.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لأنْ أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ{إذا زلزلت} والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر.. أحب إليَّ مِن أنْ أهذّ القرآن ليلتي هذًّا ـ أو قال: ـ أنثره نثرًا.
.
وعن طاوس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: «نعم، مَن كان منطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، ونظره عبرة؛ فإنه مثلي».
.
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه، فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنس لك.. فيقول لقمان: «إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة».
.
وقال وهب بن منبه: «ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل».
.
وقال عمر بن عبد العزيز: «الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة».
.
وقال عبد الله بن المبارك يومًا لسهل بن علي -ورآه ساكتا متفكرًا-: أين بلغت؟ قال: الصراط».
.
وقال بِشْر: «لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل».
.
وعن ابن عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب»..
والأقوال أكثر من أن تُحصَى في أحوال السلف في التفكر...
قال الشاعر :
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ * * * وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ * * * وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ * * * وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ * * * وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ
.
لذلك كان التفكر من أفضل العبادات، لما له من آثار وثمار طيبة في حياة الإنسان...فمن ثمرات التفكر:
1- أنه يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل.
نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ * * * لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ
رُبَّ لاهٍ وَعُمْرُهُ * * * قَدْ تَقَضَّى وَمَا شَعَرْ
.
وقال الشاعر :
فوا عجبا كيف يعصي الإله * * * أم كيف يجحده جاحدُ
لله في كل تحريكة * * * وتسكينة أبدا شاهدُ
وفي كل شيء له آية * * * تدل على أنه واحدُ
وقال آخر:
تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظر * * * إلَى آثارِ مَا صَنَعَ المَلِيكُ
عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شاخصاتٍ * * * بأحداقٍ كما الذَّهَب السَّبيك
عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِداتٍ * * * بأَنَّ اللهَ ليسَ لَهُ شَرِيك
..
2- أن التفكر في الكون يكشف عن عظمة الخالق في خلقه، ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى، ويتواضع لعظمته، ويحاسب نفسه على أخطائها فيزداد إيمانًا وصفاءً.
سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجَاج، وبحار ذات أمواج، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير؟
.
ولما سئل الشافعي عن الله تعالى ومعرفته قال:
الدودة تأكل الورقة فتخرج حريرًا طريًّا، والنحل يأكل الورقة فتخرجها عسلًا شهيًّا، والشاة تأكل الورقة فتخرجها لبن نديًّا، والغزال يأكل الورقة فيخرجها مسكًا نقيًّا...، المادة واحدة والصنعة مختلفة، فمن الصانع؟!
.
فتأمل – أيها العاقل – وسل نفسك : مَنْ علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب، عفى أثر مشيته بِذَنَبِه ، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ في منخريه ، لأن اللبؤة تضعه جروًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك !
.
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !.
.
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق، فتأتي ماء وسطًا تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم.
.
ومَنْ علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره، والذكر من الأنثى، فيقصد الذكر مع علمه بأنّ عدوه أشد وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عدوها؛ لأنّه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حقن ببوله ، وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو ، فيقل عدوه ، فيدركه الكلب ، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج ، فيدوم عدوها !.
.
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبًا بين عينيه، فينام بإحداهما، حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
.
ومَنْ علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ، ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمة وحركة، حتى يطير معهم!.
.
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ، ثم يظهر !.
.
3- أن التفكر في الكون يفتح آفاق المعرفة والتعلم , فحبنما يتفكر المرء في الكون يكتسب معارف جديدة وعلوم نافعة يستفيد منها في جميع أمور حياته .
وكم من مكتشفات ومخترعات حصلت واستفاد البشر منها استثمارًا للتفكر.
.
قال إبراهيم بديوي:
لِلَّهِ فِي الآفَاقِ آيَاتٌ لَعَـ * * * ـلَّ أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ * * * عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا * * * حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
قُلْ لِلطَّبِيبِ تَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى * * * يَاشَافِيَ الأَمْرَاض مَنْ أَرْدَاكَ؟
قُلْ لِلْمَرِيضِ نَجَا وَعُوفِيَ بَعْدَمَا * * * عَجَزَتْ فُنُونُ الطِّبِّ مَنْ عَافَاكَ؟
قُلْ لِلصَّحِيحِ يَمُوتُ لا مِنْ عِلَّةٍ * * * مَنْ بِالْمَنَايَا يَا صَحِيحُ دَهَاكَ؟
قُلْ لِلْبَصِيرِ وَكَانَ يَحْذَرُ حُفْرَةً * * * فَهَوَى بِهَا مَنْ ذَا الَّذِي أَهْوَاكَ؟
بَلْ سَائِلِ الأَعْمَى خَطَا بَيْنَ الزِّحَامِ * * * بِلا اصْطِدَامٍ مَنْ يَقُودُ خُطَاكَ؟
قُلْ لِلْجَنِينِ يَعِيشُ مَعْزُولاً بِلا * * * رَاعٍ ومَرْعًى مَا الَّذِي يَرْعَاكَ؟
قُلْ لِلْوَلِيدِ بَكَى وَأَجْهَشَ بِالْبُكَاءِ * * * لَدَى الْوِلادَةِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟
وَإِذَا تَرَى الثُّعْبَانَ يَنْفُثُ سُمَّهُ * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ ذَا بِالسُّمُومِ حَشَاكَ؟
وَاسْأَلْهُ كَيْفَ تَعِيشُ يَا ثُعْبَانُ أَوْ * * * تَحْيَا وَهَذَا السُّمُّ يَمْلأُ فَاكَ؟
وَاسْأَلْ بُطُونَ النَّحْلِ كَيْفَ تَقَاطَرَتْ * * * شَهْدًا وَقُلْ لِلشَّهْدِ مَنْ حَلاَّكَ؟
بَلْ سَائِلِ اللَّبَنَ الْمُصَفَّى كَانَ بَيْنَ * * * دَمٍ وَفَرْثٍ مَا الَّذِي صَفَّاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْحَيَّ يَخْرُجُ مِنْ حَنَا * * * يَا مَيِّتٍ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَحْيَاكَ؟!!
قُلْ لِلْهَوَاءِ تَحُثُّهُ الأَيْدِي وَيَخْـ * * * ـفَى عَنْ عُيُونِ النَّاسِ مَنْ أَخْفَاكَ؟!
قُلْ لِلنَّبَاتِ يَجِفُّ بَعْدَ تَعَهُّدٍ * * * وَرِعَايَةٍ مَنْ بِالْجَفَافِ رَمَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّبْتَ فِي الصَّحَرَاءِ يَرْ * * * بُو وَحْدَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَرْبَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَدْرَ يَسْرِي نَاشِرًا * * * أَنْوَارَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَسْرَاكَ؟!
وَاسْأَلْ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَدْنُو وَهْيَ أَبْـ * * * ـعَدُ كُلِّ شَيءٍ مَا الَّذِي أَدْنَاكَ؟!
قُلْ لِلْمَرِيرِ مِنَ الثِّمَارِ مَنِ الَّذِي * * * بِالْمُرِّ مِنْ دُونِ الثِّمَارِ غَذَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّخْلَ مَشْقُوقَ النَّوَى * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا نَخْلُ شَقَّ نَوَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّارَ شَبَّ لَهِيبُهَا * * * فَاسْأَلْ لَهِيبَ النَّارِ مَنْ أَوْرَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى الْجَبَلَ الأَشَمَّ مُنَاطِحًا * * * قِمَمَ السَّحَابِ فَسَلْهُ مَنْ أَرْسَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى صَخْرًا تَفَجَّرَ بِالْمِيَاهِ * * * فَسَلْهُ مَنْ بِالْمَاءِ شَقَّ صَفَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّهْرَ بِالْعَذْبِ الزُّلالِ * * * جَرَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَجْرَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَحْرَ بِالْمِلْحِ الأُجَاجِ * * * طَغَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَطْغَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ يَغْشَى دَاجِيًا * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا لَيْلُ حَاكَ دُجَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الصُّبْحَ يُسْفِرُ ضَاحِيًا * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا صُبْحُ صَاغَ ضُحَاكَ؟!
يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَهْلاً مَا الَّذِي * * * بِاللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أَغْرَاكَا؟
سَيُجِيبُ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ آيَاتِهِ * * * عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
ربِّي لَكَ الْحَمْدُ الْعَظِيمُ لِذَاتِكَ * * * حَمْدًا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ إِلاَّكَا
.
وأختم بهذا القول لأحد الكُتاب، حيث قال:
زُرِ المحكمة مرةً في العام ؛ لتعرف فضل الله عليك في حُسنِ الخُلق.
زُر المستشفى مرةً في الشهر ؛ لتعرف فضل الله عليك في الصحة والعافية.
زر الحديقة مرةً في الأسبوع ؛ لتعرف فضل الله عليك في جمال الطبيعة.
زُر المكتبةَ مرة في اليوم ؛ لتعرف فضل الله عليك في العقل.
زر ربَّكَ كل آنٍ ؛ لتعرف فضله عليك في نعم الحياة.
.
فعبادة التفكر هي عبادة الأنبياء، ودرب الأتقياء، ونور وبرهان للاهتداء.. فيها العبرات والعظات، وبحر من الخيرات، وفيها اليمن والبركات.
فاللهم اجعلنا ممن يتفكر في آلائك، ويعترف بنعمائك.
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي
-------------------------- -------------------------- -----------
حقوق النشر لكل مسلم شريطة العزو للأصل.
كم للعبادات من حلاوة في نفوس العبيد، والتي لا يشعر بهذه الحلاوة إلا من وفقه الله لذلك، وامتزجت روحها بقلبه وعقله، ولحمه وعظمه.. وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء.
ويزداد الفضل تفضُّلًا حينما جاءت الحقائق تبيّن أن الكون في خدمة الإنسان، ليس عدوًّا له..، وأن كل شيء مسخَّر لخدمته.. هذا المخلوق الضعيف.. لكنه المُكرَّم !
قال سبحانه وتعالى بعدما بيَّن عظيم خلقه للسماوات والأرض، وعظيم قدرته في إخراج الثمرات، وتسخير الفلك في البحر، وأنه آتى الإنسان كل ما سأله إياه.. فقال بعد هذا كله:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
وقال جل جلاله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}... والآيات كثيرة.
.
فعلاقة الإنسان بالكون علاقةُ تلازُم، وتناغُم، وانسجام...، تتمثل في الاستكشاف، والتأمُّل، والتفكُّر؛ مما ينتج عن ذلك:
الانتفاع له ولسائر الدواب...
وهكذا يجمع الإسلام بين الإشباع الحسِّي والوجداني، وحاجات الإنسان المادية؛ ليرتقي به ماديًّا ونفسيًّا، ويحدث التوازن في شخصيته وحياته.
إذن..، فالكون وما حوَى سبب للمعرفة العلميّة، والمعرفة الإيمانيَّة.
.
ولقد أجرمت الحضارات الغربيَّة في حق الدِّين والعلم والإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون، وقصرت التعامل على المعرفة الماديَّة فقط، ونسَوْا أن هناك علاقة التلازُم والانسجام بين الإنسان والكون.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.
وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}.
.
وأخرج البخاري، عن قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه، حدثهم قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحُدًا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف، وقال: «اسكن أحد - أظنه ضربه برجله -، فليس عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: «سيروا هذا جمدان سبق المفردون» قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله قال: «الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات».
فتأمَّل الجبال كيف تناغمت وانسجمت، ونسجت شبكةً زاتصالًا حوَى التجاوب بينها وبين عباد الله الصالحين ملؤها الحب والتعاضد في تمجيد الله تعالى...
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
وليس الجبال فقط بل كل شيء في الكون!
فالنار تحسن معاملة إبراهيم عليه السلام.
والبحر يحتضن موسى عليه السلام وهو رضيع.
والكهف الموحش –وهو مظنّة الهلاك– يؤوي الفتية المؤمنين الفارِّين بدينهم؛ فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في القصور بين أهلهم الكافرين.
والريح تسارع بحمل البُشرَى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنَّ ابنه المفقود حيٌّ يرزق.
ويرفق البحر والحوت معًا بيونس عليه السلام فيخرج من المِحنة العجيبة سالمًا لم يغرقه الماء، ولم يأكله الحوت، وإنّما ابتلعه بحسب ما أمره ربه تعالى.
بل إن الكون من حجَرٍ وشجَرٍ وجدارٍ..إلخ سوف يصطفُّ مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود فينادي الشجر والحجر المسلم ويدلُّه على مخبإ اليهوديّ ليخلّص الأرض من رجسه وظلمه.
إذن.. الكون كتاب مفتوح، جعله الله تبارك وتعالى ليُقرَأ بكل لغةٍ وبكلِّ لسان، ويدرَك بكل الحواس، وبأي وسيلة...؛ كل ذلك للتأمُّل والتفكُّر في صنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي أعطى كل شيء خلقة ثم هدى.
هذا الإبداع الرباني الذي ينطق بعظمة الخالق جل وعلا...
السماء وارتفاعها، واتساعها، وما فيها من مجرَّات دائرة، وكواكب نيرة، ونجوم زاهرة.
والأرض وانبساطها وانخفاضها وما فيها من جبال، وبحار، وثمار، وأشجار، وأنهار، وإنسان، وحيوان؛ تجعل القلب ينطق قبل اللّسان.
لله درُّ القائل:
سَلِ الواحةَ الخضراءَ والماءَ جاريًـا * * * وهـذه الصحـارِي والجبـال الرَّواسِـيَ
سَلِ الروض مزدانًا سَلِ الزهرَ والندَى * * * سَلِ الليلَ والإصبَاحَ والطير شاديًا
سَلِ هذه الأنسام والأرض والسمَا * * * سَلْ كلَّ شـيءٍ تسمـع الحمْدَ سارِيـًا
فلو جَنَّ هـذا الليـلُ وامتـدَّ سرمـدًا * * * فمـن غيـر ربـي يُرجِـعُ الصبـح ثانيـًا
.
وعبادة التفكر كانت دأب النبيِّ صلى الله عليه وسلم منذ تحنثه وهو شاب في غار حراء، وسبقه بها كل نبيٍّ لاسيما الخليل إباهيم...
وظل النبي صلوات الله عليه ديدنه التفكُّر حتى لحق بالرفيق الأعلى.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: «يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي». قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك. قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حِجْرَه. قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته. قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكِ وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}.
.
وأثرَه اقتفاه أصحابُه...
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما سُئل بم عرفت ربك؟ فقال:
«عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له: وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال: العجز عن الإدراك إدراك والبحث في ذات الله إشراك».
.
وقال أبو سليمان الداراني: «إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة».
.
ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبي الدرداء قالت: «التفكر والاعتبار».
.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لأنْ أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ{إذا زلزلت} والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر.. أحب إليَّ مِن أنْ أهذّ القرآن ليلتي هذًّا ـ أو قال: ـ أنثره نثرًا.
.
وعن طاوس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: «نعم، مَن كان منطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، ونظره عبرة؛ فإنه مثلي».
.
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه، فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك! فلو جلست مع الناس كان آنس لك.. فيقول لقمان: «إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة».
.
وقال وهب بن منبه: «ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل».
.
وقال عمر بن عبد العزيز: «الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة».
.
وقال عبد الله بن المبارك يومًا لسهل بن علي -ورآه ساكتا متفكرًا-: أين بلغت؟ قال: الصراط».
.
وقال بِشْر: «لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل».
.
وعن ابن عباس: «ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب»..
والأقوال أكثر من أن تُحصَى في أحوال السلف في التفكر...
قال الشاعر :
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ * * * وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ * * * وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ * * * وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ * * * وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ
.
لذلك كان التفكر من أفضل العبادات، لما له من آثار وثمار طيبة في حياة الإنسان...فمن ثمرات التفكر:
1- أنه يورث الحكمة، ويحيي القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل.
نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ * * * لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ
رُبَّ لاهٍ وَعُمْرُهُ * * * قَدْ تَقَضَّى وَمَا شَعَرْ
.
وقال الشاعر :
فوا عجبا كيف يعصي الإله * * * أم كيف يجحده جاحدُ
لله في كل تحريكة * * * وتسكينة أبدا شاهدُ
وفي كل شيء له آية * * * تدل على أنه واحدُ
وقال آخر:
تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظر * * * إلَى آثارِ مَا صَنَعَ المَلِيكُ
عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شاخصاتٍ * * * بأحداقٍ كما الذَّهَب السَّبيك
عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِداتٍ * * * بأَنَّ اللهَ ليسَ لَهُ شَرِيك
..
2- أن التفكر في الكون يكشف عن عظمة الخالق في خلقه، ويجعل المرء يقر بوحدانية الله تعالى، ويتواضع لعظمته، ويحاسب نفسه على أخطائها فيزداد إيمانًا وصفاءً.
سئل أعرابي عن الدليل فقال: البعرة تدل على البعير، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجَاج، وبحار ذات أمواج، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير؟
.
ولما سئل الشافعي عن الله تعالى ومعرفته قال:
الدودة تأكل الورقة فتخرج حريرًا طريًّا، والنحل يأكل الورقة فتخرجها عسلًا شهيًّا، والشاة تأكل الورقة فتخرجها لبن نديًّا، والغزال يأكل الورقة فيخرجها مسكًا نقيًّا...، المادة واحدة والصنعة مختلفة، فمن الصانع؟!
.
فتأمل – أيها العاقل – وسل نفسك : مَنْ علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب، عفى أثر مشيته بِذَنَبِه ، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ في منخريه ، لأن اللبؤة تضعه جروًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك !
.
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !.
.
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق، فتأتي ماء وسطًا تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم.
.
ومَنْ علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره، والذكر من الأنثى، فيقصد الذكر مع علمه بأنّ عدوه أشد وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عدوها؛ لأنّه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حقن ببوله ، وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو ، فيقل عدوه ، فيدركه الكلب ، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج ، فيدوم عدوها !.
.
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبًا بين عينيه، فينام بإحداهما، حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
.
ومَنْ علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ، ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمة وحركة، حتى يطير معهم!.
.
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ، ثم يظهر !.
.
3- أن التفكر في الكون يفتح آفاق المعرفة والتعلم , فحبنما يتفكر المرء في الكون يكتسب معارف جديدة وعلوم نافعة يستفيد منها في جميع أمور حياته .
وكم من مكتشفات ومخترعات حصلت واستفاد البشر منها استثمارًا للتفكر.
.
قال إبراهيم بديوي:
لِلَّهِ فِي الآفَاقِ آيَاتٌ لَعَـ * * * ـلَّ أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ * * * عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا * * * حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
قُلْ لِلطَّبِيبِ تَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى * * * يَاشَافِيَ الأَمْرَاض مَنْ أَرْدَاكَ؟
قُلْ لِلْمَرِيضِ نَجَا وَعُوفِيَ بَعْدَمَا * * * عَجَزَتْ فُنُونُ الطِّبِّ مَنْ عَافَاكَ؟
قُلْ لِلصَّحِيحِ يَمُوتُ لا مِنْ عِلَّةٍ * * * مَنْ بِالْمَنَايَا يَا صَحِيحُ دَهَاكَ؟
قُلْ لِلْبَصِيرِ وَكَانَ يَحْذَرُ حُفْرَةً * * * فَهَوَى بِهَا مَنْ ذَا الَّذِي أَهْوَاكَ؟
بَلْ سَائِلِ الأَعْمَى خَطَا بَيْنَ الزِّحَامِ * * * بِلا اصْطِدَامٍ مَنْ يَقُودُ خُطَاكَ؟
قُلْ لِلْجَنِينِ يَعِيشُ مَعْزُولاً بِلا * * * رَاعٍ ومَرْعًى مَا الَّذِي يَرْعَاكَ؟
قُلْ لِلْوَلِيدِ بَكَى وَأَجْهَشَ بِالْبُكَاءِ * * * لَدَى الْوِلادَةِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟
وَإِذَا تَرَى الثُّعْبَانَ يَنْفُثُ سُمَّهُ * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ ذَا بِالسُّمُومِ حَشَاكَ؟
وَاسْأَلْهُ كَيْفَ تَعِيشُ يَا ثُعْبَانُ أَوْ * * * تَحْيَا وَهَذَا السُّمُّ يَمْلأُ فَاكَ؟
وَاسْأَلْ بُطُونَ النَّحْلِ كَيْفَ تَقَاطَرَتْ * * * شَهْدًا وَقُلْ لِلشَّهْدِ مَنْ حَلاَّكَ؟
بَلْ سَائِلِ اللَّبَنَ الْمُصَفَّى كَانَ بَيْنَ * * * دَمٍ وَفَرْثٍ مَا الَّذِي صَفَّاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْحَيَّ يَخْرُجُ مِنْ حَنَا * * * يَا مَيِّتٍ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَحْيَاكَ؟!!
قُلْ لِلْهَوَاءِ تَحُثُّهُ الأَيْدِي وَيَخْـ * * * ـفَى عَنْ عُيُونِ النَّاسِ مَنْ أَخْفَاكَ؟!
قُلْ لِلنَّبَاتِ يَجِفُّ بَعْدَ تَعَهُّدٍ * * * وَرِعَايَةٍ مَنْ بِالْجَفَافِ رَمَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّبْتَ فِي الصَّحَرَاءِ يَرْ * * * بُو وَحْدَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَرْبَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَدْرَ يَسْرِي نَاشِرًا * * * أَنْوَارَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَسْرَاكَ؟!
وَاسْأَلْ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَدْنُو وَهْيَ أَبْـ * * * ـعَدُ كُلِّ شَيءٍ مَا الَّذِي أَدْنَاكَ؟!
قُلْ لِلْمَرِيرِ مِنَ الثِّمَارِ مَنِ الَّذِي * * * بِالْمُرِّ مِنْ دُونِ الثِّمَارِ غَذَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّخْلَ مَشْقُوقَ النَّوَى * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا نَخْلُ شَقَّ نَوَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّارَ شَبَّ لَهِيبُهَا * * * فَاسْأَلْ لَهِيبَ النَّارِ مَنْ أَوْرَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى الْجَبَلَ الأَشَمَّ مُنَاطِحًا * * * قِمَمَ السَّحَابِ فَسَلْهُ مَنْ أَرْسَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى صَخْرًا تَفَجَّرَ بِالْمِيَاهِ * * * فَسَلْهُ مَنْ بِالْمَاءِ شَقَّ صَفَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّهْرَ بِالْعَذْبِ الزُّلالِ * * * جَرَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَجْرَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَحْرَ بِالْمِلْحِ الأُجَاجِ * * * طَغَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَطْغَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ يَغْشَى دَاجِيًا * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا لَيْلُ حَاكَ دُجَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الصُّبْحَ يُسْفِرُ ضَاحِيًا * * * فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا صُبْحُ صَاغَ ضُحَاكَ؟!
يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَهْلاً مَا الَّذِي * * * بِاللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أَغْرَاكَا؟
سَيُجِيبُ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ آيَاتِهِ * * * عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
ربِّي لَكَ الْحَمْدُ الْعَظِيمُ لِذَاتِكَ * * * حَمْدًا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ إِلاَّكَا
.
وأختم بهذا القول لأحد الكُتاب، حيث قال:
زُرِ المحكمة مرةً في العام ؛ لتعرف فضل الله عليك في حُسنِ الخُلق.
زُر المستشفى مرةً في الشهر ؛ لتعرف فضل الله عليك في الصحة والعافية.
زر الحديقة مرةً في الأسبوع ؛ لتعرف فضل الله عليك في جمال الطبيعة.
زُر المكتبةَ مرة في اليوم ؛ لتعرف فضل الله عليك في العقل.
زر ربَّكَ كل آنٍ ؛ لتعرف فضله عليك في نعم الحياة.
.
فعبادة التفكر هي عبادة الأنبياء، ودرب الأتقياء، ونور وبرهان للاهتداء.. فيها العبرات والعظات، وبحر من الخيرات، وفيها اليمن والبركات.
فاللهم اجعلنا ممن يتفكر في آلائك، ويعترف بنعمائك.
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي
--------------------------
حقوق النشر لكل مسلم شريطة العزو للأصل.

