نصيرة الفصحي ... (امرأة بمئة رجل)

لا يزال يطرق آذاننا المثل المصري الذي يقول: (امرأة بمئة رجل)، وهذا لا يخفى على كل سامع، وهو واقع ما له من دافع؛ فهناك من النساء حقًّا مَن تزن رجلًا بل مئة رجل! بدينها وأعمالها، وفِكرها، بل وجهادها فيما جاز لها الجهاد فيه..
واليوم أسلط الضوء، كل الضوء على امرأة ممن صدَقَ عليهن هذا المثل..
إنها الدكتورة/ نفوسة زكريا، التي كانت أستاذةً للأدب بكلية الآداب جامعة الإسكندرية..
ارتبط اسمها بكتابها الشهير «تاريخ الدعوة إلى العامّيّة وآثارها في مصر»، والذي تتبَّعت فيه أصل الدعوة إلى استخدام العامّيّة في الكتابة، والآثار التي خلّفتها في ميدان اللغة والأدب.
وكانت في الأصل رسالة لنيل درجة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها.
ورغم أهمّيّة هذا المؤلّف وكونه مرجعاً أساسيّاً في قضية الفصحى والعامّيّة إلا أن المعلومات المنشورة عن صاحبته محدودة للغاية، ربما لا تتعدى أنها كانت أستاذة للأدب العربي الحديث بكلّيّة الآداب- جامعة الإسكندرية.
وهذا ما دعاني للكتابة عنها، وإلقاء الضوء على سيرتها العلمية ومؤلّفاتها التي يأتي على رأسها «تاريخ الدعوة إلى العامّيّة».
.
ولدت د. نفّوسة في الإسكندرية عام 1921، وحصلت على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلّيّة الآداب- جامعة الإسكندرية عام 1946 بتقدير ممتاز؛ لتكون أوّل معيدة في القسم وفي الكلّيّة، ثم نالت درجة الماجستير عام 1953 بمرتبة الشرف الأولى، وكان موضوع الرسالة «البارودي حياته وشعره».
وتم نشره في مؤسَّسة البابطين عام 1992.
وفي عام 1959 نالت درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى، ونُشِرَت الرسالة الشهيرة (تاريخ الدعوة إلى العامية) عام 1964.
وخلال مسارها المهني درّست في كلّيّة الآداب- جامعة الكويت، وفي السعودية في كلّيّة البنات في الرياض وفي الدمام، وكانت أوّل عميدة لكلّـيّة البنـات في القصــيم.
وقد توفِّيـت رحمها الله في الثامن عشر من أكتوبر عام 1989 عن عمر يناهز الثامنة والستين، بعد أن قدّمت للّغة العربية خدمة كبيرة بدفاعها عن الفصحى ضدّ الداعين إلى إقصائها وإحلال العامّيّة محلّها.
ذكرت في مقدّمة كتابها «تاريخ الدعوة إلى العامّيّة» أنها عندما بدأت تفكِّر في اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه، ظهرت من جديد الدعوة إلى اتخاذ العامّيّة أداة للكتابة والتعبير الأدبي وإحلالها محلّ الفصحى، ورغم خطورة هذه الدعوة والضجّة التي أحدثتها في مختلف البلاد العربية لم تحظَ بدراسة علميّة منظّمة تكشف عن مصدرها وبواعثها، وتبيِّن أهدافها والنتائج التي ترتَّبت عليها.. تقول: «فوجدتني أهتمّ بها، ولم أشأ أن أقطع فيها برأي إلا بعد دراسة وبحث».
بدأت د. نفّوسة أوّل فصول دراستها بالحديث عن اهتمام الأوروبيين بدراسة اللهجات العربية المحلّيّة وبالتأليف فيها منذ القرن التاسع عشر، ليس بهدف البحث العلمي- كما تقول- وإنما بهدف القضاء على العربية الفصحى وإحلال العامّيّة محلَّها.
وبعد بحث استطاعت أن تقف على المصدر الذي نبعت منه الدعوة إلى العامّيّة حيث وجدته في أوّل مؤلّف أجنبي خُصِّص لدراسة العامّيّة المصرية وهو «قواعد العربية العامّيّة في مصر» للألماني «ولهلم سبيتا» الذي كان مديراً لدار الكتب المصرية.
ويعدّ الباحثون الكتاب الذي ظهر عام 1880 أوّل محاولة جدّيّة لدراسة لهجة من اللهجات العربية المحلّيّة.
من هذا الكتاب، كما تشير د. نفّوسة زكريّا، انبثقت الشكوى من صعوبة العربية الفصحى، ووُضِعَ فيه أوّل اقتراح لاتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة العامّيّة، تلك الحروف التي نودِيَ باستخدامها، فيما بعد، لكتابة العربية الفصحى.
.
وقد تتبَّعت د. نفّوسة زكريّا المؤلّفات الأجنبية التي تناولت دراسة العامّيّة المصرية، ودرست عددًا منها لمؤلِّفين من الألمان والإنجليز ممن عاشوا في مصر مدّة طويلة، وتولّوا فيها مناصب عالية، وخاصّة إبّان عهد الاحتلال البريطاني، منها كتاب كارل فولرس «اللهجة العربية الحديثة في مصر» وكتاب سلدن ولمور «العربية المحكيّة في مصر» وغيرهما؛ حيث وجدت أن هؤلاء المؤلِّفين قد اتّحدوا في هدف واحد هو السعي لإقصاء العربية الفصحى عن الميدان الأدبي وإحلال العامّيّة محلَّها مردِّدين المزاعم نفسها من صعوبة الفصحى وجمودها والنظر إلى اللهجة المصرية كلغة جديدة مختلفة عن الفصحى تمام الاختلاف، كاختلاف اللاتينية الكلاسيكية عن الإيطالية الحديثة.

كما تتبَّعت المحاولات التي قام بها الأجانب لضبط العامّيّة واستنباط قواعد لها ولإيجاد أدب مُدَوَّن بالعامّيّة، حيث قاموا بتسجيل بعض الآثار العامّيّة ونشرها، من أزجال ومواويل وقصص، وكان أغلبها مما التقطوه من أفواه العامّة، كذلك محاولاتهم استخدام العامّيّة في معالجة موضوعات علمية وأدبية رفيعة، كما فعل الإنجليزي «وليم ولكوكس» عندما ألّف بالعامّيّة، ونقل إليها بعض النصوص. لتخلص الباحثة إلى أن دراسة هذه الآثار كشفت عجز العامّيّة عن معالجة الموضوعات الرفيعة وما أحدثته فيها من تشويه أفقَدَها سماتها الأدبية والعلمية. مع العلم أن بعض المصريين كتبوا بالعامّيّة فعلاً قبل الدعوة الأجنبية، وفي بدء ظهورها مثل يعقوب صنوع صاحب مجلة «أبو نظارة»، وغيره، ولكنهم كانوا يهدفون إلى تثقيف العامّة والترفيه عنهم على أن تظلّ للفصحى مكانتها في الميدان الأدبي.
.
تناول الكتاب أيضاً الآثار التي خلّفتها الدعوة في اللغة والأدب، فقد تنوَّعت الدراسات اللغوية سواء التي تناولت العامّيّة أو الفصحى، كذلك انتشرت المؤلّفات المدوَّنة بالعامّيّة بعد أن كانت قليلة، من مسرحيات وقصص ودواوين زجلية ومجلّات «بلغت أوج رواجها في الثلث الأوَّل من القرن العشرين أي وقت احتدام المعركة بين الفصحى والعامّيّة عقب الدعوة إلى العامّيّة وإلى تمصير العربية، ثم أخذت تقلّ تدريجياً حتى كاد الميدان يقفر منها من جديد في الوقت الحاضر»، تقصد خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
.
في الباب المُعَنْوَن بـ «التجربة تردّ للفصحى اعتبارها» فسَّرت د. نفّوسة زكريّا رواج العامّيّة في القصّة بأنواعها، بعكس الشعر، بسبب حداثة الفن القصصي في أدبنا المعاصر ورغبة المؤلِّفين في محاكاة الواقع محاكاة حَرْفية. وتشير إلى أن إنتاجنا القصصي الذي استخدمت فيه العامّيّة مثـَّل التجارب الأولى في التأليف القصصي (قصة عودة الروح لتوفيق الحكيم)، وأن روّاد القصة المعاصرين –باستثناء المازني- لم يستخدموا العامّيّة إلا في بدء تكوينهم الأدبي، وقد كانوا متأثِّرين بفكرة (المصرية) في السياسة واللغة والأدب التي راجت في ذلك الوقت، وأنهم خرجوا من هذه التجارب الأولى التي استخدموا فيها العامّيّة معترفين بعجزها وعدم صلاحيّتها للتعبير الأدبي مجمعين على نبذها والرجوع إلى الفصحى في تجاربهم اللاحقة؛ فقد رجع محمود تيمور إلى بعض أقاصيصه الأولى التي كتبها بالعامّيّة فأعاد كتابتها بالفصحى، واتَّجه توفيق الحكيم في كتابة المسرحية إلى أسلوب جديد حرص فيه على توخّي السهولة في التعبير لكي يقرِّب بين الفصحى والعامّيّة حيث استخدم لغة مستقاة من لغة الحياة اليومية، وحرص جهده على ألا تخرج عن قواعد الفصحى.
هذا- بصورة موجزة- أهمّ ما رصدته د. نفّوسة زكريّا في دراستها التي تتجاوز الخمسمئة صفحة.

الجدير بالذكر أن الكتاب لم يُعَد طبعه منذ سنوات طويلة إلا على نطاق محدود.
شخصيّاً لم أستطع الحصول على نسخة ورقية منه حتى من بائعي الكتب القديمة، وفي ظل ظهور الدعوة من جديد إلى العامّيّة، أو ما يعرَف بـ«اللغة المصرية» فمن المهمّ أن يكون الكتاب متوافرًا ومتاحًا للقرّاء.
وقد أثنى على الكتاب مجموعة من العلماء والأدباء، منهم:
شيخ العربية الأستاذ الأديب الكبير/ محمود محمد شاكر.
وفضيلة الشيخ العلامة/ محمد سعيد رسلان.
وغيرهم من أهل العلم والفضل، والغيرة على العربية.
فرحمها الله، وجزاها خيرا جزاء ما قدمت
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي
-----------
ملاحظة: منقول بتصرف وزيادات من مقال للأستاذة منى علام، نُشر في مجلة «الدوحة» العدد 89 مارس2015.