إذا لم تكن فصيحا فلا تكن قبيحا

 
الحمد لله، وبعد:
ترددتُ كثيرًا قبل كتابة هذه الكُليمات المختصرات، لأنني لم أعرف ــ ولا أزال ــ كيف أبدأ...
فإن القلب يعتصر ألمًا من التطور اللغوي ــ أو على الصحيح: الانتكاس اللغوي ــ الذي حلَّ على لغتنا العربية الفصيحة؛ حتى صرنا بدلًا من تطويرها واستخدام كلمات عربية متطورة، أو مستعربة؛ نستخدم الكلمات الركيكة، السوقية، المنحطة، التي لا يتكلم بها إلا أراذل الجهلاء، وكبار السفهاء، فإلى انجليزية وفرنسية دخيلة على العربية، إلى عاميَّة سوقية، إلى كلماتٍ غريبة لا يستخدمها إلا السوقة والأراذل..، ولا أحتاج لبيان دليل، فالأفلام والمسلسلات والأغاني الماجنة تشهد بهذا، وتذيعه ليلا ونهارًا، سرًّا وجهارًا...، ونسمعه في أغنيات الشوارع، ومن الشباب الصاعد الواعد!..
* ولكن قبل هذا الانحدار الذي نشهده، كيف انتكست الفصحى إلى العامية ابتداءً؟
الجواب:
الاستشراق وأهله، الذين عاشوا مصر مدةً من الزمن القريب! حيث أخذوا يشنون حملات مسعورات على اللغة الفصيحة، مُتَّهمِينهَا بالجمود، والقصور..
وكان مِن أوائل أولئكم:
- ((ولهلم سبيتا)) الألماني مدير «دار الكتب المصرية» في القرن التاسع عشر، والذي حاول وضع قواعد للعامية المصرية، زاعمًا أن الفصحى دخيلة، جاءت مع الفتح الإسلامي!!
- القاضي الإنجليزي ((بول)) وكان من قضاة المحكمة الأهلية بالقاهرة، حيث دعا إلى تبنِّي اللهجة العامية.
- ((فيلوث)) الأستاذ في «كامبرج وكلكتا» للغات الشرقية، قام هو و(بول) بوضع كتاب أسمياه «المقتضب في عربية مصر».
- المستشرق ((وليام ويلكوكس)) كان مهندسًا للري في القاهرة، وكان الأكثر حماسًا لذلك.
ومن المصائب العُظمى أن هذا الأخير الحاقد كان يتولى تحرير «مجلة الأزهر» عام (1883م).
- ((ماسنيون)) طالبَ بترك الحرف العربي، واستبداله بالحرف اللاتيني أو الانجليزي.
- ((سلامة موسى)) ركب موجاتهم، وسار على دربهم؛ ليكمل تلك المشاريع الخبيثة.
- ((عبد العزيز باشا فهمي))، طالبَ «مجمع اللغة العربية» بنفس الطلب السابق، وهو تبديل الحروف من العربية إلى الإنجليزية؛ فرفض المجمع ولله الحمد.
وتصدَّى لكل أولئكم علماء كل عصر فيهم، وتصدى للأخير (فهمي) العلامةُ المُحدِّث أحمد شاكر، (وسوف أنشر رده مطبوعًا قريبًا إن شاء الله)..
ثم هدأت الهجمة شيئًا...
ولكنه هدوء ما قبل العاصفة ؛ لتعود اليوم مجددًا، في صورة تلك الصياغات التي أشرت إليها آنفًا في مبدئ المقال، بل وتولى كبر هذه الفتنة شباب من جلدتنا، لا يقودهم إلا التحضر الزائف، واللهث وراء كل جديد ولو كان قبيحًا..
فصاروا يتكلمون كلامًا من أقبح ما تسمع! ويستعربون من تلقاء أنفسهم ألفاظًا أعجمية! فيقولون (ساي = say) ، (بيس = peace)، (كانسل = cancel)، (باسكت = basket)، ولو قلنا (سلة المهملات) لصرنا أضحوكة القوم، وفاكهة المجالس! وكأننا نحن المخطؤون!، ولا ننس الـ(صوص = sauce) ولو قلت صلصة فأنت فلاح!!
وهكذا حتى صارت هذه الكلمات كأنها عربية، ومَن يقول بغيرها كأنه (local) وغير متحضر,...!
والأفحش من هذا ما يُستخدم على غير وجهه! كمن يقول: (قشطة) يعني جيد! أو (فكك) يعني اترك الأمر ونحو هذه من كلمات...
ولم يتوقف الأمر على هذا، بل تعدى الكتابة.. وصاروا يطبقون ما نادى به المستشرقون قديمًا...
فالمستشرقون طالبوا بتغيير الحروف العربية وعجزوا عن التنفيذ !
وأصحاب الفرانكو هم الذين ينفذون اليوم !
اعلموا أن اللغة تحيا وتتقدم أو تموت بفعل أهلها، فهم الذين يحيونها أو يهدمونها..
وإن ضياع لغتنا؛ هو في الحقيقة ضياع للعلم، بل ضياعٌ للدين..
فحينما تقرأ حديث رسول الله الذي كان يتكلم به كلامًا! فيفهمه مَن يعيشون ذلك الزمان، ولا تفهمه أنت! فاعلم أنك على خطر!
ولعل من أسباب انتشار مثل هذه الانحدارات:
- الضعف اللغوي
- الاستهزاء بالكلمات العربية لاسيما في الإعلام ووسائله
- تغيير المناهج الدراسية اليوم، التي ما هي إلا محاولة ناجحة جدا في هدم الهوية العربية، وكفيلة بالقضاء على لغتنا في مدة وجيزة!
فالطفل يذهب المدرسة سبع ساعات غالب دراسته وكتابته حروف غير عربية، مع مدرِّس غير فاهم لها على النحو المطلوب
واستعمالات ألفاظه كثير منها غير عربي، مثل: (مستر) التي صارت كأنها عربية، ولم يعد الغالبية يستخدمون لفظة مُعلِّم أو حتى أستاذ! التي هي أصلا غير عربية كذلك!
ويقولون(الشييت)، و(الكلاس)..إلخ.
ومع كل ذلك، عدم تيسير تعلم اللغة العربية، أو حشو مناهجها على عقول الأطفال حتى كرهوا النحو!
وإهمال مادة التربية الإسلامية التي من خلالها يستطيع المعلم ان يغرس في ذهن الأطفال شتى التعاليم والأسس التي يتمسكون بها... ولا نجد إلا العنكبوت والحمامتين!
إلى أين أنتم ذاهبون بلغتكم، بل وبدينكم ؟!
إن القلب ليحزن حينما يأتينا ويجري وراءنا شباب من غير العرب (أجانب) يريدون تعلم العربية ليستطيعوا فهم القرآن والسنة، ويدرسون العقيدة والفقه والتفسير وغير ذلك؛ يقولون: (لا نريد مترجما بيننا وبين الله)!
ومن ناحية أخرى: شبابنا يدمر اللغة بتغيير حروفها، وكلماتها...، والآباء في سبات عميق، لا توعية، والأمهات كذلك، ومن كان حاذقًا منهم، ينصح لأبنائه مجرد كلام، ولكن ما الذي فعله وقرره بالفعل؟!
ونحن لا نحرم تعلم اللغات! بالعكس، ولكن لماذا لا نجعل لغتنا هي الأم!، ونجبر العالم على التحدث بها، ونترجم لهم تعاليم ديننا، وثقافتنا، ونكون مؤثرين.. لا متأثرين!
.
وهنا ملمح لابد من ذِكره فأقول:
شباب اليوم من مستخدمي هذه الأساليب في ضياع اللغة، هم آباء وأمهات وأساتذة الغد، فإذا نشأ الشباب متأثرًا بـما نراه؛ فسينتجون لنا جيلا لا يعرف سواه، وحينها: وداعًا للغة العربية وثقافتها... حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ويمكنني أن أقترح لهذه لقضية حلولا للمساعدة، فعلينا بـ:
- زيادة التوعية عبر وسائل الإعلام (بشتى أنواعها لمن يقدر الكتابة أو التسجيل أو تصوير برنامج.. إلخ) ، وتوضيح ما سيترتب من مشكلات إذا استفحل الأمر، فللإعلام تأثير كبير على الشباب.
- يجب أن تزود المناهج الدراسية بما يضع حدا للموضوع، ويجب على المدرسين تنبيه الطلاب وتوعيتهم من هذا الخطر، وتيسير وتحبيب اللغة لهم، وتحفيزهم على القراءة والكتابة واستخراج الفوائد من قراءاتهم الصغيرة.
.
في الجعبة كثيرٌ وكثيرٌ لا يكفي ما كُتب هنا بأي حال، بل يحتاج لأسفار، لا مجرد احاديث وأسمار!
ولكن هذه لافتة أنشرها في هذا العالم الأزرق، الذي قلَّ فيه القراء، وصارت إعجابات دون قراءة إلا من رحم ربي وعصم، فلعلها تجد قارئًا منصفًا ينشرها لمن يعيها ويبثها من ورائه..
ولعل التوسع في موضوعات أخرى
والله المستعان
وكتب
أبومارية أحمد بن فتحي